مقالات

صيف تركي ساخن.. سياسياً وأمنياً

محمد نورالدين

عرف المشهد التركي هذا الأسبوع ذروات من التطورات الدراماتيكية في الداخل والخارج، التي تنذر بأن الصيف التركي، السياسي والعسكري والأمني، قد يكون أكثر سخونة مما هو عليه الآن، وبما لا يمكن لأحد أن يقدر الحدود التي يمكن أن يصل إليها.
أعلنت تركيا إذن حربا مزدوجة، أولى على تنظيم «داعش» وثانية على «حزب العمال الكردستاني». تحول «داعش» بين شهر وآخر من تنظيم هو «مجرد ردة فعل طبيعية من أهل السنّة على استبداد النظام في دمشق وفي بغداد»، على حد تبرير احمد داود اوغلو، إلى تنظيم إرهابي يشكل تهديدا لتركيا ويجب محاربته.
إعلان أنقرة حرباً على «داعش» لا شك يلقى قبولا ورضى غربيين، ويساهم في تحسين صورة تركيا السلبية والمتهمة، بالوقائع والوثائق، بدعم التكفيريين. ردود الفعل الغربية جاءت مرحبة من دون أن يخلق ذلك أوهاماً كبيرة لدى قادتها بأن تركيا ستجترح المعجزات، على قاعدة أن «القليل خير من الحرمان».
ما لفت أن أنقرة سرعان ما قرنت اسم «داعش» باسم «حزب العمال الكردستاني»، ووضعت الإثنين في بياناتها في سلة واحدة. لكن في التطبيق العملي لهذا الموقف الجديد كانت الصورة مغايرة بالكامل. الكلام على «داعش» لكن الفعل على الأكراد.
الاعتقالات في الداخل طاولت 90 في المئة منها عناصر تابعة أو مؤيدة إلى «الكردستاني». أما القصف الجوي فشمل بعض المواقع، المشكوك حتى بوجودها، لـ «داعش»، فيما كانت مئات الغارات تطال قواعد الحزب في منطقة جبال قنديل في شمال العراق وفي الداخل التركي.
من الواضح أن سلطة «حزب العدالة والتنمية» برئاسة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، رغم أن لا صفة حزبية ولا حكومية له، أعلنتها حرباً مفتوحة على الأكراد، بدءا من ذراعهم العسكرية «حزب العمال الكردستاني» وصولاً إلى ذراعهم السياسي «حزب الشعوب الديموقراطي» بزعامة صلاح الدين ديميرطاش.
يريد أردوغان من ذلك تكسير شوكة الكتلة الكردية في تركيا التي أظهرت ولاءها الكامل إلى «الشعوب الديموقراطي» ومكنته من الحصول على 13 في المئة في الانتخابات النيابية قبل شهرين إلا نيفاً، وكانت السبب الأساسي لهزيمة أردوغان ودفن أحلامه الرئاسية ومنع تفرد «العدالة والتنمية» في السلطة.
لم يتقبل أردوغان ولا «حزب العدالة والتنمية» الهزيمة حتى الآن. لا يزالون تحت وقع الصعقة الانتخابية. وكل ما يفعلونه هو درس أفضل وانجح الطرق للإنتقام من النتائج، وكيف سيستوعبون الهزيمة ويلتفون عليها ويفرغون الانتخابات من مفاعيلها السلبية على الحزب.
خطة أردوغان واضحة جدا: إفشال تشكيل الحكومة الجديدة والذهاب إلى انتخابات مبكرة تعيد «العدالة والتنمية» إلى السلطة منفرداً بحيث يستمر أردوغان بالتحكم بالقرار في تركيا بقوة الأمر الواقع، بمصادرة صلاحيات الحكومة ورئيسها، خصوصاً أن داود اوغلو ليس من خيار أمامه سوى الرضوخ لولي نعمته.
واستعادة جزء من الناخب الكردي ليست بحاجة بنظر أردوغان لكثير جهد. يكفي إفهام الأكراد أنهم سيكونون عرضة للقتل، وأن قوتهم العسكرية ستكون عرضة للتدمير والتوهين، لكي يزرع الخوف في نفوسهم ويفضلون التصويت مجدداً لحزب أردوغان. هذا ما يفعله الآن «حزب العدالة والتنمية» من خلال تفجيرات الداخل من سوروتش إلى غيرها، وصولا إلى غارات يومية مكثفة على قواعد «الكردستاني» في داخل تركيا وفي جبال قنديل في شمال العراق وصولا إلى قصف قرى في سوريا يسيطر عليها «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي السوري.
أما على الصعيد السياسي، فإن الخطة باتت مكشوفة بمعزل عما إذا كانت ستنجح أم لا. اعتقالات بالمئات بل الآلاف للأكراد. منع اللقاءات الكردية مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان في السجن منذ ثلاثة أشهر ونصف الشهر. اعتبار عملية الحل غير قائمة ومنتهية. التهديد بإغلاق «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي بذريعة أنه يؤيد إرهاب «الكردستاني»، فيذهب أردوغان إلى انتخابات مبكرة من دون «حزب الشعوب الديموقراطي» فيستفرد بالساحة الكردية ويستولي على نواب المناطق الكردية. أو في أسوأ الأحوال ترفع الحصانة النيابية عن بعض قادة الحزب الكردي، وعلى رأسهم صلاح الدين ديميرطاش والرئيسة الثانية في الحزب فيجن يوكسيكداغ، فيذهب الحزب من دون قادته الرئيسيين ضعيفاً إلى الانتخابات المبكرة، خصوصا أن أردوغان قال إن أولئك الذين يتلطون وراء الحصانة النيابية يجب أن يدفعوا الثمن.
إذن نحن أمام حملة تدمير ممنهجة للكتلة الكردية في تركيا من شقين عسكري وسياسي. وهذا يذكر بالكامل، بل ربما يكون أسوأ، بمرحلة التسعينيات التي شهدت أعنف المواجهات والاعتقالات وإمساك النواب الأكراد برقابهم على باب البرلمان وسوقهم إلى السجن وحرق القرى وتهجير سكانها.
لكن المشكلة أن النخبة التركية الحاكمة لا تتعلم من دروس الماضي، رغم أن «مفكريها» من دارسي النظريات الإستراتيجية، بل من الواضعين لها. والأكيد، وليس الأرجح، انه كما فشلت تلك الحملات الرسمية على يد الحكومات العلمانية – العسكرية، فإن الظروف الحالية هي أكثر صعوبة على سلطة «العثمانيين الجدد». فعلى الصعيد الداخلي بلغ الحضور الكردي السياسي ذروته في الانتخابات النيابية الأخيرة، وعلى الصعيد الخارجي سجل «حزب العمال الكردستاني» حضوراً تاريخياً وقوياً في ساحات القتال في شمال العراق ضد «داعش»، وفي سوريا حيث نجح «حزب الاتحاد الديموقراطي» في السيطرة على كل الشريط الحدودي السوري مع تركيا، من الحدود العراقية إلى مدينة عين العرب (كوباني).
مقابل الحرب الفعلية ضد الأكراد تبرز الحرب الوهمية المضحكة ضد «داعش»، والتي تستغبي مبرراتها ووقائعها شعوب المنطقة والرأي العام العالمي، وقبل هؤلاء الشعب التركي نفسه. لكن أنقرة مصممة على الاستمرار في تصديق كذبتها. فلا «داعش» تبنى تفجير سوروتش، بل نسّبته أنقرة بالقوة لهذا التنظيم، ولا مقتل ضابط تركي على يد مسلح من داخل الأراضي السورية تقول أنقرة إنه من «داعش»، واقعة مؤكدة. إذ تشير بعض المعلومات إلى أن هذه الحادثة مفبركة ومن تدبير الاستخبارات التركية. تماما مثل قول رئيسها حاقان فيدان، في الاجتماع السري في وزارة الخارجية السنة الماضية، أنه يمكن أن تذهب عناصر تركية إلى الداخل السوري وتطلق صاروخين على الأراضي التركية لتكون ذريعة لتدخل عسكري في سوريا.
«حرب» تركيا على «داعش» لم تكن تنفصل عن الاتفاقية التي وقعتها أنقرة مع واشنطن، والتي قضت بفتح قاعدة إنجيرليك أمام الطائرات الأميركية والغربية. وكلا الأمرين كان يستهدف، من زاوية الأهداف التركية، ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
1ـ الشريط الكردي:
من أهم أهداف تركيا من الضربات العسكرية لمواقع «حزب العمال الكردستاني» في قنديل وتركيا هو إضعاف القدرة العسكرية للحزب وإرباكه، بل منعه من تقديم العون لأكراد سوريا، وبالتالي عرقلة تمدد هؤلاء إلى الغرب من عين العرب، ومنعهم من السيطرة على المنطقة الفاصلة بين عين العرب ومنطقة عفرين.
هذا الهدف لا يمكن تحقيقه، خصوصا أن الجميع من بغداد إلى أربيل نفسها وصولا إلى طهران لم يتبنوا وجهة النظر التركية. أما الولايات المتحدة فكان موقفها رمادياً، أقرب إلى ترك الأتراك يضربون مع علمهم المسبق بحتمية فشل هذه الضربات. لكن الأتراك بإعلان حرب على «داعش» وفتح إنجيرليك أمام طائرات التحالف إنما يأملون على الأقل أن تغض واشنطن النظر، وتسمح ضمناً بإقامة منطقة عازلة عنوانها الظاهري منع تمركز «داعش» فيها، لكن الهدف الأساسي منع استكمال الأكراد للشريط الحدودي، والحؤول دون سيطرتهم على تلك المنطقة الممتدة من عين العرب إلى عفرين، وطولها حوالي المئة كيلومتر.
وفي ظل نفي أميركا لموافقتها على إقامة منطقة عازلة، فإن تلافي الإحراج كان في إعطاء تركيا للمنطقة العازلة تسمية جديدة هي «منطقة نظيفة»، وفقا لتركيا، من مقاتلي «داعش»، فيما المقصود طبعاً خالية من أي تمدد أو حضور للمقاتلين الأكراد، من دون أن يدخل الجيش التركي براً، بل حماية المنطقة نارياً عبر سلاح الجو أو القصف المدفعي من وراء الحدود.
2ـ الجيش التركماني:
لكن ما يرشح من معلومات باتت معلنة أن تركيا لا تستطيع أن تضمن الرقابة المضمونة على تلك البقعة بالقوة النارية فقط. لذا هي تخطط لكي يتولى أمن المنطقة هناك «جيش» جديد أسموه «الجيش التركماني». بهذا المخطط تستطيع تركيا إقامة شريط حدودي يحاكي الشريط الذي أقامته إسرائيل في جنوب لبنان، مع وجود جيش عميل هو «الجيش التركماني».
3ـ حلب و«عقدة الأسد»:
إلى استهداف منع وصول الأكراد إلى تلك «المنطقة النظيفة»، فإن تركيا تخطط لتعزيز وزن المجموعات المعارضة الموالية مباشرة لها، والموجودة في تلك المنطقة، مع رفدها بقوات تركية تحت الغطاء التركماني، تمهيدا لإحداث نقلة نوعية في المواجهات مع القوات السورية الموجودة في حلب، والعمل على إسقاط حلب وخلق موازين قوى جديدة في سوريا، بهدف الضغط على النظام وفك «عقدة الأسد» المزمنة لدى أردوغان.
4ـ الاتفاق النووي وإعادة تشكيل الدور:
لعل ما يلفت في التطورات الأخيرة بعد إعلان تركيا «الحرب» على «داعش»، أن الحكومة التركية دعت حلف شمال الأطلسي إلى الإنعقاد لدعم حربها ضد «داعش».
هنا أرادت تركيا أن توجه رسالة إلى الغرب تذكره فيها أنها بلد عضو في الحلف. اجتماع الحلف لم يقدم ولم يؤخر، وكان روتينياً، ولم يقدم لأنقرة أي تعهدات خارج إصدار بيان دعم روتيني. التذكير التركي كان استكمالاً لموافقة أنقرة على فتح قاعدة إنجيرليك وعلى إعلان حربها ضد «داعش». هذه الانعطافة التركية في الموقف السياسي والعسكري لم تأتِ وليدة «صحوة» تركيا على انتمائها الغربي. بل تتعلق بحسابات ما بعد الاتفاق النووي بين إيران والغرب. تركيا تربح اقتصادياً وأمنياً، من الاتفاق لكنها تخشى من تراجع دورها على الصعيد السياسي.
الكعكة الإيرانية الاقتصادية لن تبقي مواقف الدول الغربية، المفتوحة على الاستثمار في إيران، على ما هي عليه من القضايا التي طهران طرف فيها. ورغم أن بعض الملفات قد يشهد الكثير من التصعيد، لكن أخذ حصة من الكعكة الإيرانية سيجعل مواقف الغرب أقل تشدداً تجاه طهران وأكثر مراعاة لمواقفها من العديد من القضايا.
لذا تجد أنقرة نفسها مرغمة على إحداث تحول في علاقاتها مع الغرب إذا أرادت أن تقلل من خسائرها السياسية المرتقبة بعد الاتفاق الإيراني. وقد توسلت تركيا ذلك من خلال تقديم تنازلات بشأن الموقف، ولو شكليا من «داعش» ومن خلال فتح قاعدة إنجيرليك واستعدادها المستجد لتكون جزءا فاعلا من استراتيجيات «الأطلسي».
ترحيب الغرب بالانعطافة التركية الجديدة لا يعني الانسجام مع المقاربات التركية تجاه العلاقة مع أكراد تركيا وسوريا، ولا تجاه إقامة منطقة عازلة في شمال سوريا، ولا اطمئناناً للحرب المعلنة من أنقرة على «داعش»، ولا احتضاناً لدور تركي جديد وفقا لما تريده أنقرة. لذا فإن العلاقة بين تركيا والغرب تحتاج إلى فترة من امتحان الأهداف الحقيقية من حملات أردوغان الجديدة ومدى التصاقها بسعيه لتعويم نفسه في الداخل التركي عبر انتخابات مبكرة، قبل أن ترسو على معادلات جديدة، وفقا لمصداقية أردوغان من عدمها ووفقا للشروط الجديدة في المنطقة، ولا سيما بعد الاتفاق الإيراني ـ الغربي. وهذا كله لن تتبلور صورته قبل نهاية العام الحالي، أي بعد حصول الانتخابات النيابية المبكرة، إن حصلت، وعشية دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ الفعلي.

:::::::::::::::::::::::::

جريدة السفير 01.08.2015

زر الذهاب إلى الأعلى