مقالات

الصراع على تحرير شنكال

صلاح الدين مسلم

أخيراً تحرّرت شنكال، فأولئك الذين عبروا الطريق إليها من جبال قنديل مروراً بهولير، عبر نداء منظومة هذه المدينة، وبعد أن أصيب الشعب الكرديّ في جنوبيّ كردستان برعبٍ إثْر سقوطها خلال ساعات دون مقاومة تُذكر، من قبل أربعة آلاف وخمسمئة جنديّ من المفترض أنّهم يحمونها، وبعد أن وصلت قوافل الدواعش على حدود هولير بعد أن هرب الطبقيّون منها، هذه المدينة التي أبى أولئك المتعصّبون الإسلاميون إلّا أنْ ينظروا إليها على أنّها موطن الكفر والإلحاد، ولطالما تطلّع الراديكاليون إليها بعين الاستصغار والتحقير، هذا الشعب الكرديّ الإيزيديّ الذي لم يذق طعم الراحة، لا من النظام البعثيّ العراقيّ، ولا من النظام الكرديّ ولا من النظام العراقيّ الجديد، فأصبحت هذه المدينة التي لم تتنازل عن دينها الإيزيديّ، ولاقت الويلات إثر الويلات من هذه التهمة الملاصقة لها، وعاشت بعد سقوط صدّام حسين بين عدم الاعتراف الحكوميّ بها كمدينة غير إسلاميّة، وبين النظام الكردي الذي ظلّ يستهجن الإيزيديين، ويبتعد عن مصالح هذا الشعب، ولم يضمّ شنكال إلى إقليمه.

والآن تحرّرت شنكال بيد القوّات الكرديّة المشتركة، وبيد الشنكاليين الذين ذاقوا الألم والضياع والحنق إثر تهجيرهم وسبي نسائهم، إنّها جريمة العصر، جريمة الحداثة الرأسماليّة التي كانت ومازالت المشروع الذي يتطلع إليه الإقليم، هذا المشروع الذي حرَم المجتمع من كدحه وعرق جبينه، وصارت الحياة فيه أغلى من أكبر المتروبولات الغربيّة.

بعد هذا التحرير أصاب الرعبُ الطبقاتِ السياسيّة التي ترى نفسها فوق المجتمع، وانتشرت اتّهامات هنا وهناك، وبدأت التشويهات تجوب أنحاء العقل المغيّب لتخرّب ما يعتري الواقع بعد إنشاء مجلس مصغّر في شنكال لإدارة شؤونهم قبل عام، أولئك أنفسهم لم يطبّلوا ويذمّروا لسبب الهزيمة والخيبة الشنكاليّة مثلما ثاروا على من حرّر شنكال، وبدأت الهجمة الضروس على الحقيقة لتشويهها، حتّى بدأ سيل الاتّهامات غير الواقعيّة يجتاح سطوة الإعلاميين المزيّفين، وسرَت فكرة اتّهام حماية شنكال نفسها بنفسها، بأنّها تهدف إلى تشكيل دولة داخل دولة، وتارة نعتها بالانشقاق، وتارة بنكران الجميل وطوراً اتّهامها بالاحتلال.

لقد كانت الرؤية السائدة لدى هذه الطبقات المتثاقفة التي تظنّ أنّها مازالت تقود المجتمع بهرميّتها وببرجها العاجيّ البعيد عن المجتمع، حيث ارتأت أبداً إلى اتّهام مشروع الإدارة الذاتيّة في روجآفا عبارة عن ترّهات لا طائل منها سوى الهيمنة وسحق المجتمعات وسرقة المكتسبات، ولمّا يدركوا أنّ هذه الفكرة تقوّي المجتمع وتجعله مترابطاً متيناً ضدّ أيّ انتهاك لقدراته، ويكون مسؤولاً أمام نفسه وشعبه، وأمام العالم في حماية مكتسباته ومقدّراته.

إن كانت فكرة الإدارة الذاتيّة المنطلقة من ترسيخ مفهوم الحماية عبارة عن ترّهات كما يتصوّرها المهاجم، فلِمَ كلّ هذا الخوف من هذه الإدارة؟ ولمَ كلّ هذا الرعب من أيّ علم دافع عن شنكال، وإن كان من يدّعي أنّ هذا المشروع آت من طرف لا يستسيغه ولا يعترف بوجوده، بل يعتبره عالة على مصالحه، فلماذا يخاف هذا المشروع؟ ولا يعارضه بطرقه الديمقراطية التي يجعلها شعاراً يرفع لواءه عالياً، وإن كانت فكرة وجود مشروع ديمقراطيّ مجتمعيّ مرعبةً، فلماذا لا يبحث في ثغرات هذا المشروع أو يأتي بمشروعه الديمقراطيّ، وإن كانت فكرة وحدات حماية شنكال التي تعتمد في جوهرها على الإرادة المجتمعية، وتقول الأجهزة الإعلاميّة: (إنّ المجتمع يرفض هذا المشروع)، إذاً فليترك القرار للمجتمع ليبدي رأيه ويحطّم هذا المشروع إنْ أراد.

أمّا إذا كنت تدرك ماهية هذا المشروع وترى أنّه يناهض الليبراليّة والاتفاق السلطوي فلتكشف عن نفسك وقل بصراحة: أنا لست مع الاتفاق الاجتماعي إنّما أنا مع الاتفاق الطبقيّ السلطويّ، لكن أن تدعي أنّك حامي الشعب وتحارب مشروعه وتمرّق مشروعك السلطوي فهذا قمة الانتهازية والمراوغة، فقد وصل الشعب الكرديّ والشنكاليون خاصة مرحلةَ الوعي التي تؤهِّله أنْ يميّز بين مصلحته ومصلحة الطبقات.

لقد كانت تجربة شنكال كفيلة ليتعرّف المجتمع على ثغرات هذا النظام الليبراليّ المهيمن على العالم، فقد قرّر المجتمع في شنكال أن يوحّد طاقاته الاقتصاديّة والفكريّة والسياسيّة، والأهمّ من كلّ ذلك توحيد طاقاته في الحماية الجوهريّة والحماية الذاتيّة، وقد بدا ذلك جليّاً في إنشاء (ypṣ) بعد هجوم مغول العصر (داعش) عليهم.

الشنكاليون هم الأَوْلى بحماية شنكال، وهم الذين يقرّرون مع من يصطفّون، فالإيزيديّون الكرد في شنكال بعد أن فقدوا الأمل في العالم أجمع إثر صمته المريب على هذا التطهير العرقيّ المنظّم من قبل الأداة (داعش)، وقبلها كانت حملات الإبادة مستمرة غير منقطعة من قبل المنظومة العالميّة لتفريغ المنطقة من السكّان الأصليين، بعد أن أفرغوا الجزيرة من الإيزيديين عبر حملات التهجير المنظّمة من قبل تركيا وألمانيا، حيث أضحى الوصول إلى ألمانيا قبل سنوات أمر يسيراً، فصرت تبحث عن الإيزيديين والكلدان والآشوريين في سوريا

بالمجهر مع أنّهم يعتبرون الشعب الأساس في هذه المنطقة، فصارت تماثيل آشور بانيبال وحضارات بابل والشنكاليين في متاحف الغرب الذي يقضّ مضجعه هذا الزخم والإرث الفكريّ التاريخيّ في الشرق الأوسط.

زر الذهاب إلى الأعلى