ثقافةدراسات

الجزء الثالث و الأخير : « أحذيةٌ وأزهارُ عبّاد شمس…» قراءة سيميولوجية لست أعمال للفنان :ڤان غوغ Van Gogh.

FB_IMG_1439848398790 

žبقلم : منير شيخي

الجزء الثالث والأخير..

– اللوحة الثانية من المجموعة الثانية:{م2،ب´}

        Oli on convas 34 x 41.5 cm[Apair of Shoes  ]

براديغم الألوان:[الأزرق،البرتقالي،الأسود،الأبيض.].

براديغم الصناعة:[الحذاء،الجلد،المسامير،الأربطة القطنية.].

براديغم الموت:[الأسود،الجلد.].

سأذكر هنا العلامات التي لم تذكر سابقاً، أو تلك التي يُمكن لها أن تأخذ منحاً أخر في التحليل، بسبب تكرارها في المجموعتين ولكن إسقاطها التعبيري مختلفٌ من عملٍ لأخر، كالأزرق على سبيل المثال لا الحصر.

اللون الأزرق:

لن أتحدث عن الأزرق فقد سبق التحدث عنه عند التعرض للوحة الثانية من المجموعة الأولى{م1،ب} و لكن أضيف في هذا العمل الأزرق نفسه كما الموجود في خلفية لوحة عبّاد الشمس {م1،ب}حيث يتوزع بنفس الحرية،بنفس الدرجات تقريباً،ودلالة الأزرق من حيث كونه يرمز للسماء والمياه وكونه لطيفاً،وإن جميع الألوان ترغب بمصاحبته وكسب وده وبكونه يرمز للعذراء وإله البحر«بنتيون»كل هذا لم يتغير، بالنسبة للوحتين{م1،ب}و{م2،ب´}.

لكن الاختلاف في لغته التعبيرية ، أجد إنه لا ضرر أن تتوجه أزهار الشمس بوجهها وتُقبَل الأزرق وتأخذ قسطاً من الحنان، فهذا يدل على إنسجامٍ روحي بين عبّاد الشمس كزهرة، والأزرق كذاكرةً للمياه، وتشكيلياً أيضاً الأصفر البرتقالي يقابل الأزرق في الدائرة اللونية،(دائرة رود Rood ) وهو لونٌ متتم ومنسجمٌ له حتى لو لم نعتمد على (رود)ودائرته، فإننا لم نرى ولم نسمع بأن فناناً إستطاع أن يجعل الأصفر والأزرق يتخاصمان، وخلق فتنةً بينهما، أو أن أزرقاً طلّق أصفراً في عموم تاريخ الفن .

بينما في هذا العمل{م2،ب´} فاللغة التعبيرية لاتختلف فحسب،بل تدلُ على حالةٍ تصارعية بين حقيقة الحذاء وحقيقة اللون الأزرق، فالدلالةُ هنا إن الحذاء يُعكر مزاج الأزرق ،يُهين الأزرق ، يُهين لطف الأزرق، كما  تهين فردة الحذاء الأخرى التي في يسار اللوحة ضمير الإنسانية، بتوجيه نعلها إلى الأعلى إلى وجه كل من يتأمل اللوحة، وفي ذلك موقف احتجاج واضح ،

إذا كانت زهرة عبّاد الشمس تتوجه للأعلى فهي تطلبُ التعاطف،وتريدإيصال حقيقتها(هي) للإنسانية.

أما الحذاء فعندما يتوجه للأعلى فهو يحتج ويريد إيصال حقيقة الإنسانية للإنسانية نفسها .

اللون البرتقالي:

لون حار، متألق ،غير محافظ وفي الوقت نفسه غير ديناميكي كالأحمر،ولكن عندما يُوضع في مكانٍ غير لائق فإنه يضجر، ولا يجد مانعاً في أن يُظهر ضجره ، وأن يتقمص شخصية الأحمر فيتمرد«أجل الألوان تخرج عن طوَرها،تشاغب،تتمرد،عندما لا نُعاملها بلطف وهنا تكمن شخصية اللون التعبيرية،التي يقوم الفنان التعبيري بإستغلالها لخدمة هدفه في العمل.».

هذا الإنعكاس الواضح للون البرتقالي على سطح الحذاء، الذي يمثل الضوء في لغة التشكيل ،إستطاع تغيير السطوح،وجعلها تُطلَقُ ألوانها، فالجلد الأسود والنعل الأسود طلَقا اللون الأسود ،وقبِلا البرتقالي الساطع وهذا القبول خدم اللوحة من الناحية التشكيلية و التعبيرية على حدٍ سواء.

اللون الأسود:

كما ذكر سابقاً يرمز إلى الموت،الحداد،الظلام،الليل والحكمة،وهو لونٌ مسيطر أوتوقراطي،لا يجد مانعاً في احتلال مساحات الأخر،خاصمه الإنطباعيون واتهموه بإنه يفقد الألوان رونقها ويجعلها مُدجنة،فتفقد الألوان بوجوده خاصية الطيران والتحلق،وتبقى أسيرةً للظل و الأرض ويرمز إلى الكوكب زحل والإله ساتورن.

في هذا العمل {م2،ب´} إستطاع الأسود ضبط العمل والتحكم بتكوينه التشكيلي ,إستطاع إظهار العمق و درجة إهتراء الحذاء ،كما لعب دوراً في التضاد اللوني حيث أظهر البرتقالي بأنصع درجاته الممكنة.

الأربطة:

ذكرنا سابقاً إن الأربطة عندما تكون مشدودة تدل على اليقظة والحماية ،وعندما تكون حرة،فتدل إما على الراحة أو الكسل أو الإسترخاء.

في هذا العمل تغادر الأربطة التكوين المركزي ،لتخرج من حلقات الحذاء،كما تخرج الأفاعي من جحورها ليلاً،ولكن لا لكي تصطاد فريستها(فإن صاحب الحذاء على ما يبدو عائدٌ من الصيد)ولكن لتخلد إلى القيلولة بعد مسير يومٍ شاق ومشبعٍ بالأحداث،فتحبو الأربطة بصمت،لتخرج من أسفل يسار اللوحة لتخبرنا على وجهة صاحبه،الذي أصبح مراقباً للمشهد مثلما نراقبه نحن اللذين نقف خارج حدود العمل (جسدياً).

فالانطباع العام الذي نشعر به في هذا العمل هي حالة الإرهاق والتعب والندم ،الرفض و الإحتجاج،إن صفات مرتدي هذا الحذاء هي مشابهة لصفات صاحب الحذاء الذي كان موجوداً في منتصف اللوحة السابقة{م2،أ´}،من حيث الرفض والتمرد و الإحتجاج،إن لم تكن مطابقة له (ربما يكون صاحب الحذائين في {م2،أ´}و{م2،ب´} هو شخصٌ واحد)،هذا ما شعرت به وأنا أغوصُ في سيكولوجية الحذاء.

لكن إحتجاجه هنا أقل وضوحاً بالمقارنة مع العمل السابق،ربما يعود ذلك لكونه وحيداً هذه المرة،مما يشعر بشيءٍ من القلق وفقدان الأمل،فنعل الحذاء في اللوحة السابقة{م2،أ´}واضحٌ بكليته،مرتفعٌ أكثر بالمقارنةمع نعل الحذاء في هذا العمل{م2،ب´}حيث كعب الحذاء هنا غير واضح كلياً و درجة إرتفاعه أقل،فهو يشعر بالخجل لذلك تجده يتخفى قليلاً خلف الفردة المستقرة.

 FB_IMG_1439848378495

ž– اللوحة الثالثة من المجموعة الثانية:{م2،ج´}

 [Oil on convas 31.5 x 45 cm  Apair of Shose]

 

البراديغمات هي نفسها كما في العمل السابق {م2،ب´}.

لا من جديد بإستثناء إن اللون البرتقالي في اللوحة السابقة أستبدل بأصفر الشمسي والتكوين إستعاد ثقته بنفسه، بالإضافة إلى ظهور الأخضر العفني في هذا العمل،وهذا ما لم يكن موجوداً في اللوحة السابقة . (مما يجعلني أن أتحدث هنا عن هذه الاختلافات فقط ).

فإشعاع الأصفر الشمسي*، يحول اللوحة،كتلةً حارة، يقظةواعية ،يمتلك الأصفر هنا القدرة على إظهار التفاؤل و الأمل و زرعه في كل أرجاء العمل،ويلاحظ ذلك من خلال إنتشاره البريء(الواثق)في كل الأرجاء تقريباً،وكإنه يريد أن يُقنع الحذاء بالخروج من عزلته وأن يُذكره أيضا بإنه لا يُصنعُ من الجلود الأحذية العسكرية فقط ، وإنمايُصنعُ منها أيضاً معاطفٌ جميلة حنونة لأسراب الأطفال، يقيهم من مزاج الشتاء الأبيض،و يجعلهم يمارسون طقوس اللعب بحريةٍ و حب.

وظهور الأخضر العفني في اللوحة يقلل من تراجيدية المشهد، يفرشُ تفاؤلاً، رطوبةً، ارتواء لعطش المشهد، فالحذاء يستقر بخجل وتردد، يُريد أن يعيد ثقته بنفسه لكن حالة الصراع الداخلي تبدو مازالت مستمرة، مع رغبةٍ جامحة بأن مرتديه يريد العودة إلى حنين التراب، ويبتعد عن كل شيءٍ يعيدهُ إلى أقبية الذاكرة المظلمة، فيريد أن يعيش، يعيش، يعيش فقط مهما كانت الحياة.

فالأخضر العفني يجعلنا نشعر بالهدوء و الطمأنينة و السكون، أن نطرد من الذاكرة كل ما يُعكر صفوها ونشعر بالوقت نفسه بأن الهدنة التي أعلنت كما يبدو ذلك واضحاً من اللوحة، بأنها ستستمر، تستمر، ولن يغتصبها بعد اليوم طيش الرصاص و جهله.

ليس مُهماً من شرب نخب الانتصار، أو من قبِل الهدنة مذلولاً، المهم إن الأخضر ينتشرُ الآن ،وكأن التربة تهيئ جسدها لإحتضان بذور عبّاد الشمس من جديد.

 

«لا يهمني إن كانت الأحذية لڤان غوغ ، أو لصديقٍ لڤان غوغ –كإميل زولا مثلاً – لكن المهم أنني أتذوق فلسفة الأحذية بعينٍ و روحٍ ما زالت تعيش في بداية القرن الحادي و العشرين ، وليس بروحٍ عاشت في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ما يعطي الفن الأصيل سمة الديمومة و الخلود.».

أوجه التشابه والاختلاف بين المجوعتين من حيث العناصر والتعبير:

المجموعتين يجمعهما طابعٌ واحد من حيث الحالة الرمزية و التعبيرية فحالة العنف واضحة في المجموعتين ،و  ظاهرة الموت،ترمي بثيابها السوداء على كلٍ من أزهار عبّاد الشمس و الأحذية معاً،دون إي شعورٍ بالعطف أو التردد،و الأسود ،الأسود أُنتخب بجدارة لكثرة تواجده في كل الأعمال و بقوة،تواجداً مؤثراً،إذ لا تجد في أي عملٍ من هذه الأعمال بإن الأسود ضيفٌ فيها،فهو يتحكم بمتعة بأمزجة الألوان و مصائرها،ويمارسُ طقوسه دون أدنى شعورٍ بالتعاطف أو الرحمة أو تأنيب الضمير.

و نلاحظ إن أزهار عبّاد الشمس هن من وقع عليهن الفعل (مفعولٌ بهن)أما الأحذية و أصحابها هم من قاموا بالأفعال،و يمثلون شخصية(الفاعلِ)بجدارة.

الإنطباع العام في المجموعة الأولى انطباع أنثوي، فأزهار عبّاد الشمس، تمثل فتيات عصر ڤان غوغ.

«عندما يرسم ڤان غوغ عبّاد الشمس فإنه يكشف، أو يحقق العلاقة الحميمة بينه هو كرجل،و زهرة عبّاد الشمس ، كزهرة عبّاد شمس، إن رسمه لا يمثل الزهرة نفسها».د.ه.لورنس

أي إن الزهرة عند ڤان غوغ هي زهرة وشيءٌ أخر أيضاً.

بينما الإنطباع العام في المجموعة الثانية هو إنطباع مفرطٌ في الذكورية، ذكورية تلبس الأسود مما يثير الغثيان.

التكوين في كلا المجموعتين مركزي، لا تشعر أبداً بإنه يمكن التخلي عن أي عنصرٍ أو لونٍ، فالكلُ واحدٌ منسجم، يخدم فكرة الأعمال دون أي شعورٍ بافتعال العناصر أو الألوان، كأن للعناصر بيئةٌ واحدة يعرفون طباع بعضهم البعض، فإذا أراد أي واحدٍ منهم أن يعكر مزاج البقية فإنه لا يحتاج لجهدٍ كبير.

الأزهار تذكرنا بالطبيعة ، بينما الأحذية فتذكرنا بالصناعة، لوحات عبّاد الشمس لا تفوحُ منها رائحة المدن ،ونشعرُ بتيار هواءٍ ريفي يخيم على أجواءها .

بينما الصناعة في المجموعة الثانية (مجموعة الأحذية ) تُعرَفُ بنفسها بقوة ، ولا تجدُ مانعاً في إظهار ذلك في كل أجزاء اللوحات، فالأحذية تُطبخ في المصانع، وكذلك المسامير والنعال والأربطة المنسوجة من القطن.

القطن الذي يتخلى عن نعومته،عن طبعه الريفي حينما كان يُزين قمم الأغصان ليخلُق ثلجاً أبيض، في جوٍ مشبعٍ بالصيف، يتحول في أول مواجهةٍ له مع إشارات المرور وصخب المدينة، إلى حبالٍ وألبسةٍ وأربطة و……، يتحول إلى كلِ شيء، ويملكُ من القدرة أن يُذكرك بكلِ شيء إلا بالقطن.

 

 

إنتهت —-

 

   * ملاحظة: الألوان في اللوحة الأساسية،مختلفٌ إلى حدٍ كبير، فالأصفر في هذا العمل مثلاً ،مضاءٌ بشدة إلى درجةٍ يقترب من درجة سطوع الشمس، فعذراً لرداءة التصوير.

زر الذهاب إلى الأعلى